فقه الأخلاق
• المقدمة
• من أصول النجاح في المعاملات مع المؤمنين:
• أصل آخر من أصول النجاح في المعاملات مع المؤمنين
• أصل ثالث من أصول النجاح في المعاملات مع المؤمنين
مقدمة واستهلال
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
[ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ][آل عمران: 102] .
[ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا ][النساء: 1].
[ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا ][الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وبعد:
فإن المؤمن بلا شك يريد أن يكون محبوبًا لدى الخالق وأيضًا محبوبًا لدى الخلق.
وكذلك فإنه يريد أن يكون وجيهًا في الدنيا ووجيهًا أيضًا في الآخرة.
وكذلك فإنه يحب أن يحيا حياة طيبة في الدنيا وأن يجازى أجره في الآخرة بأحسن الذي كان يعمل.
يحب أن يؤتى في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وأن يوقى عذاب النار.
يحب أن يجعل له لسان صدق في الآخرين كما قال الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام:[ واجعل لي لسان صدق في الآخرين ][الشعراء: 84].
يحب أن يثني عليه الناس في الدنيا ويمدحونه، ومع ذلك يلاقي الأجر العظيم والثواب الجسيم والثناء الجميل في الآخرة.
يحب أن يذكر بخير في الأرض ويذكر في الملأ الأعلى كذلك بخير وحسن ثناء.
وليس هذا بضائر للمؤمن في دينه، بل ذلك كله من محاسن هذا الدين.
فأهل الإيمان يقولون:[ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ][البقرة: 201]، وعيسى عليه السلام:[ وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين ][آل عمران: 45]، وإبراهيم الخليل يقول:[ واجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين ][ الشعراء: 84].
والله يحب بعض العباد، وكذلك يحبهم جبريل وأهل السماء، ويجعل الله لهم ودًا، ويوضع لهم القبول في الأرض.
وهذا الذي ذكر يتأتى بفضل الله، وثم بحسن خلق يرزقه الله العبد ومن ثم كان أعلى الناس منزلة يوم القيامة، وسيد ولد آدم، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا (1) .
وأقسم الله -سبحانه وتعالى- على أن نبيه صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم، قال الله -تبارك وتعالى-:[ ن والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون * وإن لك لأجرًا غير ممنون * وإنك لعلى خلق عظيم ][القلم: 1-4].
وأثنى الله -سبحانه- على نبيه صلى الله عليه وسلم غاية الثناء بقوله:[ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك ][آل عمران: 159].
وبين الله -سبحانه وتعالى- شفقة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على أمته بقوله: [ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ][التوبة: 128].
وقال تعالى في شأن هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأمته:[ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ][الفتح: 29].
وحث الله -سبحانه وتعالى- نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم على خفض جناحه للمؤمنين بقوله:[ واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ] [الشعراء: 215].
وقد اجتمعت في رسول الله صلى الله عليه وسلم خصال الخير من حياء وكرم وشجاعة ووفاء ونجدة وشهامة وحسن استقبال وحلم وإكرام يتيم وحسن سريرة وصدق حديث وعفة وطهارة وزكاء نفس وسائر خصال الخير. وقد سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (( كان خلقه القرآن )) (2) .
وصف موجز وبليغ تصف به أم المؤمنين الفقهية العالمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصف شامل وجامع، (( كان خلقه القرآن )) صلوات ربي وسلامه عليه.
خلقه هذا القرآن الذي[ يهدي للتي هي أقوم ][الإسراء: 9] و[ يهدي إلى الرشد ][الجن: 2].
خلقه القرآن ذلكم الكتاب الذي [ لا ريب فيه هدى للمتقين ][البقرة: 2].
كتاب مبارك ما فرط الله فيه من شيء.
[ وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه تنزيل من حكيم حميد ][فصلت: 41، 42]. جمع هذا الكتاب المبارك مكارم الأخلاق خير جمع ونظمها خير نظم، وسار به رسول الله صلى الله عليه وسلم خير سيرة وقام به خير قيام.
فلزمنا الفقه في كتاب الله وتدبر آياته فقد أمرنا الله بذلك وحثنا عليه.
قال الله تبارك وتعالى: [ كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ][ص: 29].
ولزمنا أيضًا النظر في سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم والتأسي به وطاعته صلوات الله وسلامه عليه. قال تعالى: [ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا ][الأحزاب: 21].
وقال تعالى:[ وإن تطيعوه تهتدوا ][النور: 54].
فلا بد، ولا مفر من النظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعها لمن أراد التحلي بمكارم الأخلاق.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في مستهل دعوته إلى التوحيد يأمر أيضًا مع دعوته للتوحيد بمكارم الأخلاق.
أخرج الإمام (3) أحمد -رحمه الله- في (( المسند )) والبخاري في (( الأدب المفرد )) بإسناد حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )) وفي رواية: (( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق )).
قال أبو ذر لأخيه -لما بلغه مبعث النبي صلى الله عليه وسلم-: اركب إلى هذا الوادي فاسمع من قوله فرجع فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق (4) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (( أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وخياركم خياركم لنسائهم )) (5) .
وبين النبي صلى الله عليه وسلم فضل حسن الخلق، وما فيه من أجر وثواب بقوله: (( ما من شيء أثقل في الميزان من خلق حسن )) (6) .
وفي بعض الزيادات الصحيحة في هذا الحديث: (( وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة )) (7) .
وأخرج أبو داود (8) بإسناد صحيح لشواهده من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم )).
وقال صلى الله عليه وسلم: (( البر حسن الخلق )) (9) .
وأخرج الترمذي (10) من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون )) قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيقهون؟ قال: (( المتكبرون )).
قال الترمذي: والثرثار هو كثير الكلام، والمتشدق: الذي يتطاول على الناس في الكلام ويبذو عليهم. وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح (11) عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (( إنه من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الدنيا ويزيدان في الأعمار ))
.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الخيرية تكمن بعد تقوى الله في حسن الخلق قال عليه الصلاة والسلام: (( إن خياركم أحسنكم أخلاقًا )) (12) .
وفي (( مسند الإمام أحمد )) (13) وكذلك عند البخاري في (( الأدب المفرد )) بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( خيركم في الإسلام أحاسنكم أخلاقًا )). وعند أحمد زيادة بنفس الإسناد الصحيح (( إذا فقهوا )).
وسئل (14) النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: يا رسول الله، ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال: (( حسن الخلق )).
ولحسن الخلق تأثير هائل في الدعوة إلى الله، وله عظيم الأثر في نفوس المدعوين.
فإذا كان للشخص رصيد طيب من حسن الخلق كانت دعوته أنفع وأنجع وأولى بالقبول عند الناس، ومن ثم أثار رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من هذا الرصيد في بداية بعثته، ألا وهو صدقه في الحديث صلى الله عليه وسلم فقال للمشركين: (( أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي )) قالوا: ما جربنا عليك كذبًا (15) .
وأثار نحو هذا أيضًا عند مجيء اليهود إليه بالمدينة، فأثار الخبر الذي في عبد الله بن سلام بقوله: (( أي رجل فيكم عبد الله بن سلام )) فقالوا: سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا، وها هو الحديث بذلك:
أخرج البخاري (16) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فذكر الحديث وفيه إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه وفيه أيضًا أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في، فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقًا وأني جئتكم بحق فأسلموا )) قالوا: ما نعلمه، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم قالها ثلاث مرار قال: (( فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ )) قالوا: سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: (( أفرأيتم إن أسلم )) قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال: (( يا ابن سلام، اخرج عليهم )) فخرج فقال: يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق، فقالوا: كذبت، فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتقدم قوله تعالى: [ ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك ][آل عمران: 159].
وأخرج مسلم في صحيحه (17) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه (18) ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لا تزرموه، دعوه )) فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: (( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله -عز وجل- والصلاة، وقراءة القرآن )) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه (19) .
وانظر إلى ما رواه مسلم (20) -رحمه الله- من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت : يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم (21) فقلت: وا ثكل أمياه (22) ما شأنكم (23) تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم. فلما رأيتهم يصمتونني (24) لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني (25) ولا ضربني ولا شتمني، قال: (( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن )).
ولما سأل هرقل (26) أبا سفيان عن رسول الله فقال له: ماذا يأمركم؟ قال: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
وقبل ذلك سأله هرقل أيضًا فقال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا.
وسأله أيضًا فهل يغدر؟ قال: لا.
من ثم قال هرقل لأبي سفيان: (فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه).
فانظر إلى آثار حسن الخلق من توحيد وصلاة وصدق وعفاف وصلة؟!!
ولهذا الفضل العظيم والثواب الجسيم في حسن الخلق فقد كللت به العبادات وزينت به المعاملات وتوِّجت به العادات، فما من عبادة يتقرب بها إلى الله -سبحانه وتعالى- إلا وهي مزينة بحسن الخلق وما من معاملة بين الناس إلا وقد جاء فيها الحث على حسن الخلق، وما من عادة من العادات التي أقرها الإسلام وجاء بها إلا وهي مصحوبة بحسن الخلق.
ففي الصلوات قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكنية والوقار )) (27) .
وفي رواية أخرى: (( إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة )) (28) .
ومن ثمرات الصلوات ما ذكره الله في كتابه:] إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر [[العنكبوت: 45]. وفي الصيام قال الله تعالى:] يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [[البقرة: 183].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (29) : (( الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم - مرتين.. ))
وقال عليه الصلاة والسلام (30) : (( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )).
وفي الحج قال الله تعالى:[ فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ][البقرة: 197].
وفي الزكاة قال تعالى: [ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ][التوبة: 103].
وقال تعالى:[ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ][البقرة: 263].
وقال تعالى: [ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ] [البقرة: 264].
وفي المعاشرة الزوجية قال تعالى: [ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ] [البقرة: 229].
وقال تعالى:[ وعاشروهن بالمعروف ][النساء: 19].
وفي البيوع ونحوها قال عليه الصلاة والسلام: (( من غشنا فليس منا )) (31) وقال: (( إن خياركم أحسنكم قضاءً )) (32) .
وهكذا في سائر الأمور (33) .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته )) (34) .
وانظر إلى فضل حسن الخلق والتأدب مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال تعالى:[ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم ][الحجرات: 3].
فالحمد لله على هذا الدين القيم الطيب.
الحمد لله على الحنيفية السمحة.
[ صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ][البقرة: 138].
هذا وللأخلاق فقه كما أن للعبادات فقهًا.
للشجاعة فقه وللحياء فقه وللكرم فقه ولسائر الأخلاق فقه.
فقد يظن شخص أنه شجاع مغوار وهو طائش متهور.
وقد يظن شخص أنه صادق الحديث قوال بالحق وهو مغتاب نمام.
قد يبالغ الشخص في اللين وخفض الجناح حتى يصل إلى الاستسلام والضعف والخور.
والشدة في موطن يحتاج إلى رفق تعد نوعًا من أنواع التهور والطيش.
والتراخي في موطن يحتاج إلى حزم يعد نوعًا من أنواع الضعف.
وقد يصل الكرم بالشخص أحيانًا إلى حد التبذير،ويكون الشخص في عداد المسرفين المبذرين وهو يظن أنه من الكرماء الممدوحين.
وقد يظن الشخص أنه ينفع أخاه بالثناء الزائد عليه وهو في الحقيقة يقطع عنقه ويذبحه ذبحًا بغير سكين.
ومن الناس من تكفيه الإشارة لردعه وزجره ونهيه عما هو فيه.
ومنهم من يحتاج إلى نوعي البيان، القلم أو اللسان.
ومنهم من لا يصلح معه لزجره إلا الضرب بالسياط.
قال تعالى:[ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس... ][الحديد: 25].
فخصال الناس تختلف وطبائعهم تتنوع وأحوالهم لها اعتبار عند التعامل معهم، وأوضاعهم وظروفهم تحتم علينا نوعًا من التعامل يختلف من شخص إلى شخص آخر، وكي يوفق المرء في التعامل مع الناس عليه أن يعرف الداء وأن يعرف أيضًا الدواء، عليه أن يكون ملمًا بأكبر قدر ممكن من الكتاب والسنة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومعاملات الرسول صلى الله عليه وسلم والناس، وملمًا أيضًا بأحوال العباد، وينزل الدليل من الكتاب والسنة منزلته الصحيحة، ويُعطي كل واقعة ما يليق بها من المعاملة الحسنة معها، وهذا من الحكمة، ومن الحكمة أن تضع الدليل الصحيح في موقعه الصحيح.
فكم من شخص يحمل قدرًا كبيًرا من الكتاب والسنة لكنه لا يعرف كيف ينزل هذا الدليل ولا أين يضع هذه الآية وهذا الحديث.
مثل ذلك كمثل صيدلي صيدليته كلها دواء، لكن قد يأتيه مريض فيعطيه دواء ليس هو بدواء ذلك الداء، فلا يبرأ المريض، بل يزداد مرضًا إلى مرضه وألمًا إلى ألمه ووجعًا إلى وجعه.
ولكن إذا صرف الدواء بناء على وصف طبيب فاهم في طبه وتخصصه، بارع في عمله أصاب الدواء الداء فشفي المريض بإذن الله.
وكذلك حامل الكتاب والسنة عليه أن ينزل كل دليل منزلته وكل تصرف في موقعه، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (( رب مبلغ يبلغه من هو أوعى له منه )) (35) .
وصدق عليه الصلاة والسلام إذ يقول: (( من يريد الله به خيرًا يفقهه في الدين )) (36) .
وصدق الله إذ يقول: [ يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيًرا كثيرًا وما يذكر إلا أولوا الألباب ] [البقرة: 269].
وكذلك فاقد الكتاب والسنة كيف يعالج الناس، والدواء ليس بين يديه.
قد يجتهد برأيه فيخطئ برأيه ويضل، وهذا الغالب، فنصوص الكتاب والسنة بصائر يستبصر بها العبد، ومنارات يستضاء بها في الظلمات.
وتنزيل النصوص في منازلها فقه يؤتيه الله من يشاء وينعم به على من يريد فقد يكون الشخص على إلمام بكثير من نصوص الكتاب العزيز والسنة المطهرة، لكنه ينزل النصوص في غير منازلها ويضعها في غير مواضعها، وكذلك قد يكون الشخص ملمًا بأحوال الناس ولكنه لا يدري شيئًا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يدري كيف يتصرف، فيتصرف حينئذٍ بناءً على ما يمليه عليه عقله ويرشده إليه فكره فلا يكاد يهتدي، بل ولا يهتدي بمعزل عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بحال.
فكان لزامًا من إلمام بالكتاب والسنة مع الإلمام بأحوال الناس، ثم سؤال الله التوفيق في إنزال النصوص منازلها.
والناظر في أحوال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى أن منهم من أوتي علمًا كثيرًا بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي هريرة رضي الله عنه ومنهم من أوتي علمًا عظيمًا بالقرآن الكريم كأبي بن كعب رضي الله عنه وبالحلال والحرام كمعاذ رضي الله عنه فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( بينا أنا نائم شربت يعني اللبن حتى أنظر إلى الري يخرج من ظفري، أو أظفاري، ثم ناولت عمر )) قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: (( العلم )) أخرج ذلك البخاري ومسلم في صحيحيهما.
فأي علم هو الذي أوتيه عمر، رضي الله عنه؟ إنه علم بسياسة الناس، فقد اتسعت الفتوحات في زمنه اتساعًا كبيرًا ومع ذلك فالأحوال كانت مستقرة وهادئة، والعدل سائد والأمن مستقر، وكان رضي الله عنه حائلاً بين الناس وبين الفتن كما أشار إلى ذلك حذيفة رضي الله عنه في حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم دخلت الفتن بعد مقتل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وأدت هذه الفتن إلى مقتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وهكذا توالت الفتن.
فكان العلم الذي أوتيه عمر كما أسلفنا هو العلم بسياسة الناس وقيادتهم فيقرب إذا احتاج الأمر إلى تقريب، ويباعد إذا احتاج الأمر إلى إبعاد، ويلين إذ احتاج الأمر إلى إلانة، ويشتد حيث يحتاج الأمر إلى شدة، يعطي حيث يحتاج إلى العطاء، فرضي الله عنه وأرضاه فكان رضي الله عنه موفقًا أيما توفيق ومسددًا أيما سداد، وكان حقًا خليفة بارًا راشدًا رضي الله عنه.
كل هذا بفضل الله، ثم بطول ملازمة عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واقتباسه من أخلاقه وطريقة تعاملاته مع الناس، ثم الفهم الذي آتاه الله عمر والسداد الذي رزقه الله إياه، والورع الذي من الله عليه به.
فلذلك نرجع فنقول: إنه لا بد للتوفيق في المعاملات مع المؤمنين من إلمام بالكتاب والسنة، والعلم بأحوال الناس، ثم الاجتهاد لإنزال النصوص منازلها الصحيحة، وسؤال الله التوفيق أولاً وآخرًا.
وقد حملني هذا الذي ذكرت من فضل حسن الخلق، والحاجة الماسة إلى فقه الأخلاق إلى جمع جملة من النصوص من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب وإتباع ذلك بشيء من الوارد في فقه هذه النصوص، وتنزيل ذلك على واقع الناس في كثير من الأحيان.
وحرصي زائد -والحمد لله- على أن أزف للقارئ الكريم كما هائلاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته، التي وردت بأسانيد صحيحة، في ثوب قشيب وسياق جميل ممتثلاً حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( نضر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها )).
وقد أشرت والحمد لله إلى ما يتم به النفع من مصادر التخريج التي وردت فيها الأحاديث المذكورة، وكذلك الحكم على هذه الأحاديث بما تستحقه صحة أو ضعفًا على وجه الاختصار، فلا معنى ولا كبير فائدة لعزو الحديث إلى الطبراني مثلاً، أو إلى أبي نعيم في (( الحلية )) والحديث في (( صحيح البخاري ومسلم )) إلا إذا كان في سياق الطبراني فائدة، وفي الغالب فمفاريد الطبراني وغيره من المتأخرين فيها كلام. وكذلك كلما وجدت سبيلاً إلى إيراد ما يتعلق بآية من تفسير، سلكت هذا السبيل، فإنه يعنيني بصورة كبيرة جدًا، يمتلئ سمع القارئ وبصره، وفؤاده بكلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقوال أهل العلم والفضل، فقد نقلت كمًا طيبًا من الآثار عن الصحابة العلماء الفضلاء، والتابعين النجباء ، وأهل الفقه في الدين، مع ما منَّ الله به علينا في هذا الباب والله المستعان.
هذا وفي الحقيقة أنني لم أرد الاستقصاء في الأبواب التي أوردها إنما فقط أشير إشارات وأنبه تنبيهات حتى تتولد عند القارئ ملكة للنظر في فقه الأخلاق ويعرف كيف يتعامل مع الناس وكيف يستنبط من النصوص وكيف ينزلها على الواقع.
فهي إشارات وأبحاث ولفتات لتفتيح الأذهان وتوسيع الآفاق وتنمية المدارك، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
وقد حرصت بتوفيق الله، على أن يكون هذا الكتاب سهل التناول أيضًا لعامة المسلمين قريب الفائدة بعيدًا عن التعقيد، مجانبًا للملل.
ثم إنني قد كتبت على هذا المنوال كتابًا في هذا المضمار، وإن كان أخص في موضوعه من الكتاب الذي بين يدي الآن، وهذا الكتاب الذي كنت قد كتبته هو كتاب (( فقه التعامل بين الزوجين )) وهو أحد أفراد هذا العمل الذي بين يدي، فلذلك لم أتعرض كثيرًا لما يتعلق بفقه التعامل بين الزوجين، وأحيل إلى كتابي المشار إليه.
أما الكتاب الذي بين يدي الآن فقد وسمته بـ (( فقه الأخلاق والمعاملات مع المؤمنين )) وقد طبع، ولله الحمد عدة طبعات في صورة أجزاء فرأيت أن أقدمه في هذه الطبعة وقد جمع بعضه إلى بعض في مجلدات حفظًا له وصونًا، فها هو في مجلدين وأسأل الله التمام على خير ولعله يتبع هذين المجلدين ثالث إن شاء الله.
هذا وقد أدمجت وأدخلت في ثنايا هذين المجلدين كتابًا كان منه فصل في هذه الأجزاء فتوسعت فيه وأودعته في ثنايا هذه المجلدات، ألا وهو كتاب (( أدب التخاطب )) فقد صدر من قبل منفردًا فأودعته ها هنا بحسب ما يتفق مع موضوعات الكتاب.
هذا وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعل هذا الكتاب شافيًا لصدور قوم مؤمنين، ومنقذًا لهم من الظلمات ومقيلاً لهم من العثرات، ورافعًا لهم في الدرجات.
وأسأل الله أن ينفعني به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وأسأل الله أن أكون قد وفقت فيما جمعت، وأحسنت فيما رتبت وسددت فيما نقلت، وأسأل الله سبحانه أن يحسن أخلاقي وأخلاق المسلمين فكما قال القائل:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فأسأل الله أن يجملنا بالخلق الحسن، وأن يكلل مساعينا بالتوفيق والسداد.
ثم ما كان من توفيق في هذا الكتاب فمن الله وحده فله الحمد وله الشكر، وله الثناء الحسن، وما كان من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه، والله أسال أن يغفر لي زلتي وأن يقيل عثرتي وأن يستر عورتي ويؤمن روعتي ويسكنني مع أهلي والمؤمنين الفردوس.
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبها
أبو عبد الله
مصطفى بن العدوي شلباية
مصر - الدقهلية - منية سمنود
______________________________
(1) أخرج البخاري (6203)، ومسلم (حديث 659)، من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً.
(2) أخرج مسلم (746) من طريق هشام بن عامر قال: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت بلى، قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن.
(3) أحمد في المسند (2/318) والبخاري في الأدب المفرد (273) وإسناده حسن وله شواهد فيها ضعف قد ترقيه إلى الصحة. قال ابن عبد البر: وهو حديث مدني صحيح متصل من وجوه صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره انظر (( الموطأ )) (903).
(4) البخاري (حديث 3861)، ومسلم (2474).
(5) صحيح بمجموع طرقه، أخرجه أبو داود (4682)، والترمذي (1162) وقال: حسن صحيح، وأحمد (2/250، 472) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
(6) صحيح: أخرجه عبد بن حميد في المنتخب بتحقيقي حديث (204)، والترمذي حديث (2004)، وأبو داود (2799)، وأحمد (6/446، 452، 451، 442) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعًا.
(7) وهي عند الترمذي وغيره وله عدة شواهد وهي صحيحة.
(8) أبو داود حديث (4798)، وأحمد (6/90، 133، 187)، والحاكم (1/60) وله عدة شواهد عند البخاري في (( الأدب المفرد )) حديث (384)، وأحمد (2/220) وغيرهم
(9) صحيح: أخرجه مسلم (2553) من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه مرفوعًا. وقد أخرج الترمذي (3073 تحفة الأحوذي)، بإسناد حسن عن ابن المبارك أنه وصف حسن الخلق فقال: هو بسط الوجه وبذل المعروف، وكف الأذى. وقال الحافظ في الفتح (10/471) قال القرطبي في (( المفهم )): الأخلاق، أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة، فالمحمودة على الإجمال، أن تكون مع غيرك على نفسك فتنصف منها ولا تنصف لها، وعلى التفصيل، العفو والحكم والجود والصبر وتحمل الأذى والرحمة والشفقة وقضاء الحوائج والتوادد ولين الجانب ونحو ذلك والمذموم منها ضد ذلك، وأما السخاء فهو بمعنى الجود، وهو بذل ما يقتني بغير عوض، وعطفه على حسن الخلق من عطف الخاص على العام، وإنما أفرد للتنويه به. وأما البخل فهو منع ما يطلب مما يقتنى، وشره ما كان طالبه مستحقًا ولا سيما إن كان من غير مال المسئول.
(10) أخرجه الترمذي (2018) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وروى بعضهم هذا الحديث عن المبارك بن فضالة عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه عن عبدربه بن سعيد وهذا أصح. قلت: الحديث مروي عند الترمذي من طريق مبارك بن فضالة عن عبدربه بن سعيد عن ابن المنكدر عن جابر، ثم أشار الترمذي إلى ما ذكرناه عنه. وعلى كل حال فمبارك بن فضالة مدلس ومتكلم فيه أيضًا، لكن للحديث شواهد يُحسن بها والمبارك يحسن حديثه في مثل هذا الموطن وانظر: (مسند الإمام أحمد) (4/193- 194)، (2/185).
(11) أحمد في (( المسند )) (6/159) من طريق عبد الرحمن بن القاسم ثنا القاسم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها.. فذكره. وإسناده صحيح، لكن قد أشار بعض أهل العلم إلى ما يفيد أنه وقف عليه من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن عائشة رضي الله عنها: أي بدون ذكر القاسم، فالله أعلم.
(12) أخرجه البخاري (6035)، ومسلم (حديث 2321) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (( لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا )) وإنه كان يقول: (( إن خياركم أحسنكم أخلاقًا )).
(13) أحمد في (( المسند )) (2/481) والبخاري في الأدب المفرد حديث (285).
(14) أخرجه البخاري في (( الأدب المفرد )) (حديث 291)، وأحمد في (( المسند )) (4/278) وابن ماجه (3436) من حديث أسامة بن شريك مرفوعًا بإسناد صحيح.
(15) أخرجه البخاري (4801)، ومسلم حديث (208) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، واللفظ لمسلم وفي لفظ البخاري: (( أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم أما كنتم تصدقونني؟)) قالوا: بلى، قال: (( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد )).
(16) البخاري (3911).
(17) مسلم حديث (285).
(18) مه مه: كلمة للزجر.
(19) فشنه: أي فصبه.
(20) مسلم حديث (537).
(21) رماني القوم بأبصارهم: أي زجروني بالنظر إلي.
(22) وا ثكل أمياه: معناها: وافقد أمي إياي فإني هلكت.
(23) ما شأنكم: أي ما حالكم وما أمركم.
(24) يصمتونني: أي: يسكتونني.
(25) ما كهرني أي: ما قهرني وما نهرني.
(26) البخاري حديث 7.
(27) البخاري حديث (636)، ومسلم حديث (602) من حديث أبي هريرة مرفوعًا.
(28) البخاري حديث (635) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه مرفوعًا.
(29) البخاري حديث (1894)، ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
(30) البخاري (1903).
(31) صحيح وسيأتي تخريجه إن شاء الله.
(32) صحيح وسيأتي تخريجه.
(33) والمقام لا يتسع للاستفاضة في ذلك.
(34) أخرجه مسلم حديث (1955) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه مرفوعًا.
(35) أخرجه البخاري حديث (67)، ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه مرفوعًا: وفيه: (( ليبلغ الشاهد الغائب فإنه... )).
(36) أخرجه البخاري حديث (71)، ومسلم حديث (1037) من حديث معاوية رضي الله عنه مرفوعًا.
من أصول النجاح في المعاملات مع المؤمنين:
مراقبة الله -عز وجل- والعمل ابتغاء وجهه سبحانه وتعالى.
فمن أعظم أسباب النجاح في التعاملات مع الناس، بل أعظمها على الإطلاق أن تبني أعمالك وتنشئ تصرفاتك كلها معهم ابتغاء وجه الله وطلبا لثوابه ومرضاته.
فإذا أعطيت تعطي لله، وإذا منعت تمنع لله.
وإذا أحببت تحب لله، وإذا أبغضت تبغض لله.
وإذا خاصمت تخاصم لله، وإذا حاكمت تحاكم لله.
وإذا صبرت تصبر لله، وإذا غضبت تغضب لله.
وهكذا في شئونك كلها معهم، وبهذا جاءت الأدلة من كتاب الله -تبارك وتعالى- ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن كون ذلك من البديهيات التي يعرفها كل مؤمن.
ففي الإنفاق والإطعام والعطاء:
قال الله تعالى:[ يطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورًا ][ الإنسان: 8، 9].
وقال سبحانه:[ الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى ][الليل: 18-21].
وقال تعالى:[ وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ][البقرة: 272].
وقال سبحانه:[ وما آتيتم من ربًا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ][الروم: 39].
وفي الإصلاح كذلك بين الناس:
لا تصلح بينهم ليقال عنك مصلح، بل أصلح بينهم ابتغاء رضوان الله وابتغاء ما عند الله.
قال الله تبارك وتعالى:[ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا ][النساء: 114].
فعليك أن تتناجى بالخير ابتغاء مرضات الله.
وعليك أن تأمر بالصدقة والمعروف ابتغاء مرضات الله.
وعليك أن تصلح بين الناس ابتغاء مرضات الله.
ذلك كله حتى تؤتى الأجر العظيم.
وكذلك في الصبر على أذى الناس:
إذا صبرت لا تصبر ليقال عنك صابر.
لا تصبر خوفًا على صحتك.
لا تصبر لكون الطرق مغلقة إلا طريق الصبر.
ولكن اصبر ابتغاء وجه ربك، وابتغاء ثواب ربك.
قال الله تعالى:[ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرًا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار ][الرعد: 22].
وإذا شهدت شهادة فاشهد لله:
قال تعالى:[ وأقيموا الشهادة لله ][الطلاق: 2].
فلا تشهد ليقال عنك قوال بالحق.
ولكن اجعل شهادتك وكلمتك لله سبحانه؛ طلبا لثوابه وابتغاء رضوانه.
إذا تعلمت فتعلم لله، وإذا جاهدت فجاهد لله، وإذا أنفقت فأنفق لله.
فإنك إذا تعلمت ليقال عالم: سعرت بك النار، وكذلك إذا جاهدت ليقال مجاهد، وكذلك إذا أنفقت ليقال عنك منفق، وبهذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففي (( صحيح مسلم )) (1) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه، رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرن، فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار )).
اجعل صلاتك لله، ونسكك لله، وحياتك كلها لله، ومماتك لله.
[ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ][الأنعام: 162، 163].
وجاءت نصوص السنة بذلك أيضًا:
قال النبي صلى الله عليه وسلم في بيان السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (( رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه )) (2) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار )) .
وقال عليه الصلاة والسلام: (( من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان.. )) (4) .
وكما قال عليه الصلاة والسلام: (( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك )) (5) .
وفي الحديث كذلك: (( إذا أنفق المسلم على أهله، وهو يحتسبها كانت له صدقة )) (6) .
وفي صحيح مسلم (7) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي )).
وفيه أيضًا (8) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (( أن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى فأرسل الله على مدرجته ملكًا فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله -عز وجل- قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه )).
وفي (( مسند الإمام أحمد )) (9) من طريق أبي مسلم الخولاني -رحمه الله- قال: أتيت مسجد أهل دمشق فإذا حلقة فيها كهول من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإذا شاب فيهم أكحل العين براق الثنايا كلما اختلفوا في شيء ردوه إلى الفتى، فتى شاب، قال: قلت لجليس لي: من هذا؟ قال: هذا معاذ بن جبل، قال: فجئت من العشي فلم يحضروا، قال: فغدوت من الغد فلم يجيئوا، فرحت فإذا أنا بالشاب يصلي إلى سارية فركعت، ثم تحولت إليه قال: فسلم، فدنوت منه، فقلت: إني أحبك في الله، قال: فدنا إليه قال: كيف قلت: قلت: إني لأحبك في الله. قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن ربه يقول: (( المتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله )) قال: فخرجت حتى لقيت عبادة بن الصامت فذكرت له حديث معاذ بن جبل، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن ربه -عز وجل- يقول: (( حقت محبتي للمتحابين فيَّ وحقت محبتي للمتباذلين فيَّ، وحقت محبتي للمتزاورين في، والمتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله )).
وفي رواية للترمذي (10) لهذا الحديث مختصرة: (( قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء )).
وإذا أحببت القوم لله وفي الله حشرت معهم يوم القيامة:
ففي (( الصحيحين )) (11) من حديث أبي موسى رضي الله عنه: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ قال: (( المرء مع من أحب)).
راقب الله في تصرفاتك مع الناس فأعمالك يراها الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( الإحسان أن تبعد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )) (12) .
وقال تعالى:[ يعلم السر وأخفى ][طه: 7].
وقال سبحانه:[ الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين ][الشعراء: 218، 219].
______________________________
(1) مسلم حديث (1905).
(2) البخاري حديث (660)، ومسلم حديث (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
(3) البخاري حديث (16) من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا، ومسلم حديث (43).
(4) أخرجه أبو داود (3681) بإسناد حسن من حديث أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا وله شاهد عند أحمد (3/440) من حديث معاذ الجهني رضي الله عنه مرفوعًا بزيادة: (( وأنكح لله )).
(5) البخاري حديث (56)، ومسلم ص (1251) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مرفوعًا.
(6) البخاري حديث (5351)، ومسلم حديث (1002).
(7) مسلم حديث (2566).
(8) مسلم حديث (2567).
(9) أحمد (5/236) وهو صحيح بمجموع طرقه.
(10) الترمذي (2390) من حديث معاذ وإسنادها حسن.
(11) البخاري (6170)، ومسلم ص (2034)، وقد وقع لأبي وائل شيخان في هذا الحديث فرواه أبو وائل مرة عن أبي موسى ومرة عن ابن مسعود، وكلا الطريقين صحيح وانظر (( علل ابن أبي حاتم )) (2/372).
(12) أخرجه مسلم حديث (1) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعًا.
وقال سبحانه:[ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة لا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم ] [المجادلة: 7].
[ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ][التوبة: 105].
[ اعملوا صالحًا إني بما تعملون بصير ][سبأ: 11].
[ ومن تطوع خيرًا فإن الله شاكر عليم ][البقرة: 158] .
وإرضاء الناس كلهم غاية لا تدرك فإنك لا تكاد ترضي هذا حتى يسخط عليك هذا فاجعل رضا الله عنك مطلبًا لك، ومبتغى تبتغيه، وغاية تنشدها، حتى لا تندم على أفعال الخير، وصنائع المعروف، التي تقدمها للناس وخاصة الجاحدين الذين يجحدون المعروف وينكرون الإحسان ويجعلون إحسانك إليهم جزءًا من الواجب لهم عليك والحق المقرر لهم عندك.
فلا ترض الناس بسخط الله عليك، بل أطع الله فيهم واتق الله فيهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (( من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله الناس، ومن أسخط الله برضا الناس وكله الله إلى الناس )) (1) .
وإذا تركت شيئًا فاتركه لله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إنك لن تدع شيئًا اتقاء الله -عز وجل- إلا أعطاك الله خيرًا منه )) (2) .
وحتى لا تندم
وكما أسلفنا فعليك أن تحرص غاية الحرص على أن يكون عطاؤك لله ومنعك لله وأخذك لله وحبك لله وبغضك في الله وشئونك كلها لله، وذلك حتى لا تندم على خير صنعته، فسجايا الناس تختلف، وطبائعهم تتنوع، فقد تحسن إلى شخص غاية الإحسان ويقابل ذلك بمنتهى الجحود والكفران فحتى لا تُصدم بمعاملة الناس السيئة وبجحودهم وكفرانهم عليك أن تخلص الأعمال كلها لله.
واذكر أخي الكريم بقصة ذلك الرجل الذي تصدق فوقعت صدقته في يد سارق ثم تصدق فوقعت صدقته في يد زانية، ثم تصدق فوقعت صدقته في يد غني، وهو لا يعلم، ومع ذلك كله فإن صدقته تقبلها الله -عز وجل- لما علمه الله من نيته وحرصه على مرضاة ربه، وها هي قصته وهذا هو حديثه:
أخرجه البخاري (3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( قال رجل: لأتصدقن بصدقة، فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غني. فقال: اللهم لك الحمد، على سارق، وعلى زانية، وعلى غني. فأتي فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله )).
ونحوه ما أخرجه البخاري (4) من حديث معن بن يزيد رضي الله عنهما قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأبي وجدي، وخطب علي فأنكحني وخاصمت إليه، وكان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها فأتيته بها فقال: والله ما إياك أردت فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (( لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن )).
وكما أسلفنا فطبائع الناس وسجاياهم تختلف، وإن كانوا من أهل الإسلام، فكثير منهم لم يتأدب بآداب الإسلام ولم يتخلق بأخلاق المسلمين.
فمنهم المحسن، ومنهم المسيء.
منهم المصلح، ومنهم المفسد.
منهم الصالحون، ومنهم دون ذلك كانوا طرائق قِددًا.
منهم من يبحث عن أهل الفقر والمسكنة والقلة والحاجة كي يتصدق عليهم، ومنهم من يبحث عن هؤلاء ليظلمهم ويتسلط عليهم.
منهم من يبحث عن الأيتام ليكفلهم ويحنو عليهم ويطعمهم ويسقيهم ويكسوهم، ومنهم من يأكل أموال اليتامى ظلمًا.
منهم من يعمر مساجد الله، ومنهم من يسعى في خرابها.
منهم مفاتيح للخير ومغاليق للشر، ومنهم مغاليق للخير مفاتيح للشر.
منهم من يشتري مصحفًا للمسجد، ومنهم من يسرق المصاحف من المساجد، بل ويسرق حصير المسجد كذلك.
منهم من يدعو إلى الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يحارب ذلك وهو يشعر أو لا يشعر.
منهم من يصلح بين الناس، ومنهم من يمشي بينهم بالنميمة والفساد.
منهم من تحسن إليه، ويسيء إليك.
تريد له الستر، ويريد لك الفضيحة.
تريد له الغنى ويريد لك الفقر.
تحبه ويبغضك.
تريد حياته، ويريد قتلك.
وكما قال القائل:

تدخله بيتك لإكرامه ويدخل بيتك لتتبع العورات.
هذه طوائف وفرق.
وهناك طوائف صالحة نقية، تقابل الإحسان بالإحسان، وتقابل المعروف بالشكر والعرفان.
فهي أخلاقيات قدرها الله بين العباد وقسمها كما تقسم الأرزاق.
وإن كان هؤلاء أهل إسلام ويشملهم مسمى المسلمين.
ألا ترى إلى قاتل علي؟ إنه رجل مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
ألا ترى إلى القائل الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل (5) إنه رجل يقول بلسانه: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ألا ترى إلى القائل عن قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله (6) ؟ إنه رجل كذلك يشهد ألا إله إلا الله.
ألا ترى إلى بعض قذفة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؟ إنه مسلم بدري (7) صحابي قريب لها وكان أبو بكر يكرمه وينفق عليه.
فليكن رجاؤك إذا أحسنت إلى الناس ثواب الله، وليكن مطلبك رضا الله عنك حتى لا تندم، وحتى لا تفاجأ بما لا يسرك من تصرفات هؤلاء البشر.
فاجعل هذا نصب عينيك لا تخطئه، ولا تغفل عنه ولا تشرد بقلبك بعيدًا، فإنك إن أخطأت وغفلت وشردت ضللت وما كنت من المهتدين
______________________________
(1) أخرجه عبد بن حميد في (( المنتخب )) حديث (1522) بتحقيقي، من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإسناده صحيح.
(2) أخرجه أحمد في المسند (5/78-79) من حديث رجل بدوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسناده صحيح.
(3) لبخاري حديث (1421).
(4) البخاري حديث (1422).
(5) البخاري حديث (3610)، ومسلم ص (744) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ولفظه: (( يا رسول الله اعدل )) والقائل رجل من تميم يقال له: ذو الخويصرة. ومسلم أيضًا من حديث جابر رضي الله عنه ولفظه: (( يا محمد اعدل )). والقائل رجل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة مسلم (1063)، وعند ابن ماجه ولفظه: (( اعدل يا محمد، فإنك لم تعدل )) ابن ماجه حديث (172).
(6) الحديث في (( الصحيحين )) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا فقال رجل: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله. وفي رواية أخرى في (( الصحيح )) أيضًا: ((إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله)). البخاري (3405). ومسلم (3/105) مع النووي.
(7) هو مسطح بن أثاثة رضي الله عنه.
أصل آخر من أصول النجاح في المعاملات مع المؤمنين:
إنما المؤمنون إخوة
هذا قول الله سبحانه وتعالى: [ إنما المؤمنون إخوة ][الحجرات: 1].
فعلى كل مسلم أن يضع هذا نصب عينيه عند التعامل مع المؤمنين، عليه أن يضع في الاعتبار أن أهل الإيمان كلهم له إخوان، وذلك حتى ينجح في تعاملاته معهم، فذلك من أصول النجاح،وقد دلت أدلة لا حصر لها من الكتاب والسنة على هذا الأصل، أصل التآخي بين المؤمنين:
قال الله تعالى:[ فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا ][[آل عمران: 103].
وقال تعالى:[ أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه ][الحجرات :12].
وقال تعالى: [ فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ][ البقرة: 178].
وقال تعالى:[ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ][التوبة: 11].
وقال تعالى:[ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ][الحشر: 10].
وقال عليه الصلاة والسلام: (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (( وكونوا عباد الله إخوانًا )) (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (( المسلم أخو المسلم )) (3) .
وقال عليه الصلاة والسلام: (( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث )) (4) .
وقال عليه الصلاة والسلام: (( تبسمك في وجه أخيك لك صدقة )) (5) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (( والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه )) (6) .
وقال صلى الله عليه وسلم في شأن الغيبة: (( ذكرك أخاك بما يكره )) (7) .
وقال عليه الصلاة والسلام في شأن الضرائر: (( لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها )) (8) .
وقال عليه الصلاة والسلام في شأن الخدم: (( إخوانكم خولكم )) (9) .
وفي البيوع قال صلى الله عليه وسلم: (( لا يبع الرجل على بيع أخيه )) (10) .
______________________________
(1) لبخاري حديث (13)، ومسلم حديث (45) من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا.
(2) أخرجه البخاري حديث (6064)، ومسلم حديث (2563) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا)).
(3) أخرجه البخاري حديث (2442)، ومسلم حديث (2580) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة )).
(4) أخرجه البخاري (6065)، ومسلم حديث (2559) من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا.
(5) أخرجه الترمذي (1956) بإسناد فيه ضعف، ولكن له شاهد عند مسلم مع النووي (5/483) بلفظ: (( لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق )).
(6) أخرجه مسلم حديث (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه )).
(7) أخرجه مسلم (2589) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( أتدرون ما الغيبة؟ )) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (( ذكرك أخاك بما يكره ))، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: (( إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه لقد بهته )).
(8) البخاري (5152)، ومسلم مع النووي (3/565) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
(9) البخاري حديث (30)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه مرفوعًا.
(10) البخاري حديث (2139)، ومسلم حديث (1414) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.
وقال صلى الله عليه وسلم: (( أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك )) (1) .
وفي الخطبة قال عليه الصلاة والسلام: (( لا يخطب على خطبة أخيه )) (2) .
بل وفي المشاكل والمضاربات قال صلى الله عليه وسلم: (( إذا قاتل أحدكم أخاه فلا يلطمن الوجه )) (3) .
وقال عليه الصلاة والسلام: (( لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح )) (4) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم دائم التذكير بهذا الأصل في أقواله وأقضيته بين المؤمنين كما أسلفنا ومن ذلك أيضًا:
قوله صلى الله عليه وسلم: (( فمن قضيت له بحق أخيه بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار )) (5) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: (( انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا )) قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلومًا فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: (( تأخذ فوق يديه )) (6) .
وقوله صلى الله عليه وسلم في شأن ضالة الغنم: (( لك أو لأخيك أو للذئب )) (7) .
وقوله صلى الله عليه وسلم في التحلل من المظالم: (( من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلل منه.. )) (8) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: (( لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم )) (9) .
وجاءت جملة نصوص أخر في هذا المعنى أيضًا:
قال عليه الصلاة والسلام: (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا )) (10) .
قال صلى الله عليه وسلم: (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )) (11) .
وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: (( المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )). (12)
وفي رواية ثالثة: (( المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله )) (13) .
وجاءت أيضًا نصوص الكتاب العزيز تؤكد أن المؤمنين نفس واحدة:
قال تعالى: [ ولا تلمزوا أنفسكم ][الحجرات: 11] أي: لا تلمزوا إخوانكم.
وقال تعالى:[ لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا ][النور :12] أي: بإخوانهم.
وقال سبحانه:[ فإذا دخلتم بيوتًا فسلموا على أنفسكم ][النور: 61] قال بعض أهل العلم: على إخوانكم.
فأثبتت هذه النصوص الأخوة بين المؤمنين ولهذه الأخوة مستلزمات، منها كما أسلفنا أن يحب المرء لأخيه ما يحبه لنفسه (14) .، فكما يحب لنفسه الربح يحب لأخيه الربح، وكما يحب أن يستر عليه فليحب كذلك أن يستر على أخيه، وكما يدعو لنفسه يدعو لأخيه، وإذا رأى أن يشتد على أخيه فيشتد على أخيه من أجل مصلحة أخيه ويأخذ على يديه إن رآه يظلم الناس... إلى غير ذلك من مستلزمات الأخوة والتوفيق بالله وهو المستعان.
______________________________
(1) البخاري (2189)، ومسلم حديث (1555) من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا.
(2) البخاري حديث (5142)، ومسلم ص (1154) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.
(3) مسلم مع النووي (5/471) كتاب البر والصلة من حديث أبي هريرة مرفوعًا.
(4) البخاري حديث: (7072)، ومسلم حديث (2617).
(5) أخرجه البخاري (2680)، ومسلم (1713) من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها )).
(6) البخاري حديث (2444)، وفي رواية: (( تحجزه تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره )). البخاري (2952) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا. وعند مسلم (2584) من حديث جابر رضي الله عنه... فذكر حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: (( ولينصر الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا، إن كان ظالمًا فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلومًا لينصره )).
(7) البخاري حديث (2427)، ومسلم حديث (1722) من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه مرفوعًا.
(8) البخاري حديث (2427)، ومسلم حديث (1722) من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه مرفوعًا.
(9) البخاري حديث (2449)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
(10) البخاري حديث (6781) من حديث عمر رضي الله عنه مرفوعًا.
(11) أخرجه البخاري حديث (2446)، ومسلم (2585) من حديث أبي موسى رضي الله عنه مرفوعًا.
(12) مسلم حديث (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعًا.
(13) هذه الرواية عند مسلم حديث (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعًا.
(14) وانظر إلى هذه الخصلة النبيلة من عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وحاول واجتهد أن تكون كذلك مع إخوانك ومع المسلمين . أخرج الطبراني في (( المعجم الكبير )) بإسناد صحيح عن ابن بريدة الأسلمي قال: شتم رجل ابن عباس فقال ابن عباس: إنك لتشتمني وفي ثلاث خصال: إني لآتي على الآية من كتاب الله -عز وجل- فلوددت أن جميع الناس يعلمون ما أعلم منها، وإني لأسمع بالحكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به ولعلي لا أقاضي إليه أبدًا، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح وما لي به من سائمة. أخرجه الطبراني (( المعجم الكبير )) (10621) وأبو نعيم في (( الحلية )) (1/321- 322).
أصل ثالث من أصول النجاح في المعاملات مع المؤمنين:
كثرة الاطلاع على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والإلمام بأكبر قدر ممكن من ذلك.
فكما لا يخفى على اللبيب، أن أحسن الكلام كلام الله -عز وجل- قال تعالى:[ الله نزل أحسن الحديث ][الزمر: 23].
وأن أصدق الحديث كتاب الله، قال سبحانه:[ الله نزل أحسن الحديث ] [النساء: 122].
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم (1) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فرسولنا لا ينطق عن الهوى[ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ][النجم: 3، 4]. فأكثر من حمل الكتاب والسنة ففيهما وفي حملهما والفقه فيهما الخير كل الخير، أكثر من حلمهما فبهما تستضيء في طريقتك وفي مسالكك وفي تعاملاتك.
فكم من حديث تحسم به مشكلة بين المسلمين.
وكم من آية يدفع بها شر عظيم عنك، بل وعن عموم المسلمين.
وكم من حديث تتخلق به مع الناس، فيجلب لك محبة الخالق ثم محبة الخلق.
كم من آية تقرؤها فترقق قلبك لفعل أشياء شتى من أبواب المعروف والبر، وصدق الله إذ يقول:[ يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا وما يذكر إلا أولو الألباب ][البقرة: 269].
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (( من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين )) (2) .
وهذا كله فضلاً عن الأجر الأخروي المدخر لك.
فإن الله -سبحانه وتعالى- قال:[ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ][المجادلة: 11].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها )) (3) .
وقال عليه الصلاة والسلام: (( نضر الله امرأ سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه )) (4) .
وأسوق إضافة إلى الآية الكريمة والحديث النبوي الشريف أثرًا واحدًا فقط يبين فضل العلم بالكتاب والسنة، وفضل الفقه في الدين، وكيف أثر ذلك في طائفة كبيرة من الناس، وعمل ما لم تعمله السيوف، وكيف رجع الألوف إلى الحق بعد الضلال قبل القتل والقتال.
أخرج النسائي في (( الخصائص )) بسند حسن (5) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما خرجت الحرورية اعتزلوا في دارهم وكانوا ستة آلاف فقلت لعلي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، أبرد بالظهر لعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم، قال: إني أخاف عليك، قلت: كلا، قال: فقمت، وخرجت ودخلت عليهم في نصف النهار وهم قائلون فسلمت عليهم فقالوا: مرحبًا بك يا ابن عباس، فما جاء بك؟ قلت لهم: أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وصهره، وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله منكم وليس فيكم منهم أحد لأبلغكم ما يقولون وتخبرون بما تقولون.
قلت :أخبروني ماذا نقمتم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمه؟
قالوا:ثالث. قلت: ما هن؟
قالوا: أما إحداهن: فإنه حكم الرجال في أمر الله وقال الله تعالى:[ إن الحكم إلا لله ][يوسف: 40] ما شأن الرجال والحكم؟
فقلت: هذه واحدة.
قالوا: وأما الثانية: فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، فإن كانوا كفارًا سلبهم، وإن كانوا مؤمنين ما أحل قتالهم؟
قلت: هذه اثنان فما الثالثة؟
قالوا: إنه محا نفسه عن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
قلت: هل عندكم شيء غير هذا؟ قالوا: حسبنا هذا.
قلت: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد قولكم أترضون؟ قالوا: نعم.
قلت: أما قولكم: حكم الرجال في أمر الله، فأنا أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صير الله حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم فأمر الله الرجال أن يحكموا فيه قال الله تعالى:[ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم ][المائدة: 95] الآية.. فأنشدتكم بالله تعالى أحكم الرجال في أرنب ونحوها من الصيد أفضل أم حكمهم في دمائهم وصلاح ذات بينهم؟ وأنتم تعلمون أن الله تعالى لو شاء لحكم ولم يصير ذلك إلى الرجال؟ قالوا: بل هذا أفضل.
وفي المرأة وزوجها قال الله عز وجل:[ وإن خفتم شقق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ][النساء: 35] فأنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في امرأة؟ أخرجت من هذه؟ قالوا نعم.
قلت: وأما قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم، أفتسبون أمكم عائشة وتستحلون منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم.
فإن قلتم: إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم، ولئن قلتم: ليست بأمنا، فقد كفرتم؛ لأن الله تعالى يقول:[ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ][الأحزاب: 6]. أنتم تدورون بين ضلالتين فأتوا منهما بمخرج.
قلت: فخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
وأما قولكم: محا اسمه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون وأراكم قد سمعتم أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين فقال لعلي رضي الله عنه: (( اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم )) فقال المشركون: لا والله ما نعلم أنك رسول الله، لو نعلم أنك رسول الله لأطعناك، فاكتب محمد بن عبد الله، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (( امح يا علي: رسول الله، اللهم إنك تعلم أني رسولك، امح يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله )) فوالله لرسول الله خير من علي، وقد محا نفسه ولم يكن محوه ذلك يمحوه من النبوة.
خرجت من هذه؟ قالوا: نعم، فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم فقاتلوا على ضلالتهم، فقتلهم المهاجرون والأنصار.
وقد ورد نحو هذا عن علي رضي الله عنه عند أحمد في (( المسند )) (6) بإسناد حسن أيضًا من طريق عبيد الله بن عياض بن عمرو القاري قال: جاء عبد الله بن شداد فدخل على عائشة رضي الله عنها ونحن عندها جلوس مرجعه من العراق ليالي قتل علي رضي الله عنه، فقالت له: يا عبد الله بن شداد، هل أنت صادقي عما أسألك عنه؟ تحدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي رضي الله عنه.
قال: وما لي لا أصدقك؟
قالت: فحدثني عن قصتهم.
قال: فإن عليًا رضي الله عنه لما كاتب معاوية وحكم الحكمان خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس فنزلوا بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة، وأنهم عتبوا عليه فقالوا: انسلخت من قميص ألبسكه الله تعالى واسم سماك الله تعالى به، ثم انطلقت فحكمت في دين الله، فلا حكم إلا لله تعالى، فلما أن بلغ عليًا رضي الله عنه ما عتبوا عليه وفارقوه عليه فأمر مؤذنًا فأذن أن لا يدخل على أمير المؤمنين إلا رجل قد حمل القرآن، فلما
أن امتلأت الدار من قراء الناس دعا بمصحف إمام عظيم فوضعه بين يديه فجعل يصكه بيده ويقول: أيها المصحف حدث الناس، فناداه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما تسأل عنه إنما هو مداد في ورق ونحن نتكلم بما روينا منه فماذا تريد؟ قال: أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا بيني وبينهم كتاب الله، يقول الله تعالى في كتابه في امرأة ورجل:[ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما ][النساء: 35]، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دمًا وحرمة من امرأة ورجل، ونقموا علي أن كاتبت معاوية كتب علي ابن أبي طالب، وقد جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قومه قريشًا فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( بسم الله الرحمن الرحيم )) فقال سهيل: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: (( كيف نكتب؟ )) فقال: اكتب باسمك اللهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( فاكتب محمد رسول الله )) فقال لو أعلم أنك رسول الله لم أخالفك، فكتب: هذا ما صالح محمد بن عبد الله قريشًا. يقول الله تعالى في كتابه :[ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ][الأحزاب: 21].
فبعث إليهم علي عبد الله بن عباس رضي الله عنه، فخرجت معه حتى إذا توسطنا عسكرهم قام ابن الكواء يخطب الناس فقال: يا حملة القرآن، إن هذا عبد الله بن عباس رضي الله عنه فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرفه من كتاب الله ما يعرف به هذا ممن نزل فيه وفي قومه] قوم خصمون [[الزخرف: 58] فردوه إلى صاحبه ولا تواضعوه كتاب الله.
فقام خطباؤهم فقالوا: والله لنواضعنه كتاب الله فإن جاء بحق نعرفه لنتبعنه وإن جاء بباطل لنبكتنه بباطله.
فواضعوا عبد الله الكتاب ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة آلاف كلهم تائب فيهم ابن الكواء حتى أدخلهم على علي الكوفة.
فبعث علي رضي الله عنه إلى بقيتهم، فقال: قد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم فقفوا حيث شئتم حتى تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بيننا وبينكم أن لا تسفكوا دمًا حرامًا أو تقطعوا سبيلاً أو تظلموا ذمة، فإنكم إن فعلتم فقد نبذنا إليكم الحرب على سواء إن الله لا يحب الخائنين.
فقالت له عائشة رضي الله عنها: يا ابن شداد فقد قتلهم؟
فقال: والله ما بعث إليهم حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدم واستحلوا أهل الذمة.
فقالت: آلله؟
قال: آلله الذي لا إله إلا هو لقد كان.
قالت: ما شيء بلغني عن أهل الذمة يتحدثونه يقولون: ذو الثدي ذو الثدي؟
قال: قد رأيته وقمت مع علي رضي الله عنه عليه في القتلى فدعا الناس فقال: أتعرفون هذا؟ فما أكثر من جاء يقول: قد رأيته في مسجد بني فلان يصلي ورأيته في مسجد بني فلان يصلي، ولم يأتوا فيه بثبت يعرف إلا ذلك.
قالت: فما قول علي رضي الله عنه حين قام عليه كما يزعم أهل العراق؟
قال: سمعته يقول: صدق الله ورسوله.
قالت: هل سمعت منه أنه قال غير ذلك؟
قال: اللهم لا.
قالت: أجل صدق الله ورسوله، يرحم الله عليًا رضي الله عنه، إنه كان من كلامه لا يرى شيئًا يعجبه إلا قال: صدق الله ورسوله، فيذهب أهل العراق يكذبون عليه، ويزيدون عليه في الحديث.
______________________________
(1) مسلم حديث (867) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مرفوعًا.
(2) البخاري حديث 71، ومسلم (1037) من حديث معاوية رضي الله عنه مرفوعًا.
(3) أبو دود (2/153) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، مرفوعًا بإسناد حسن.
(4) صحيح ومعناه متواتر، وانظر سنن أبي داود حديث (3660)، والترمذي (2656).
(5) النسائي في (( الخصائص )) حديث (185).
(6) أحمد في (( المسند )) (1/86-87).
يوجد نقص بالكتاب

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كــم وزنــك؟؟

العلامات الصغره

كلمه يهوديهYAHOO